المغرب للجزائريين حبيب / الجزء السادس
الرباط : مصطفى منيغ
المُتحدث عن الجزائر من الواجب عليه التوفّر على شروط يتجاوزها حتى التِّعْداد الخاص التالي :
-عاشراً ، أن يكون مُدركاً عمق الإقبال وفي هذا الظرف بالذات والبلدين المتجاورين بحكم الطبيعة والتصوير من الفضاء ما لا يتركا أدنى شك أن مدينة “بور سعيد” مجرَّد امتداد لمدينة “السْعِيدِيَّةْ” و خلفية لا يحدها سوى حُكم بشر دون الدخول في تفاصيل أخرى ، انطلاقاً من “عين الصفراء” إلى “بني وِنِّيفْ” إلى “زُوجْ بْغَالْ” ، أصحاب الأراضي المعنية لا يخفى عليهم سر ما أقصد ، خاصة إن كان المُتحدِّث كما سأفعل يعتمد الحياد الايجابي الذي لا تسوقه العاطفة الجوفاء في تفضيل هذا الجانب على ذاك إلاَّ مُدافعاً عن الحق متمسِّكاً بإنصاف كل الزَّوايا وإن كانت إحداها سياسية بالطبع .
– تاسعاً ، أن يكونَ دارساً لتاريخ الجزائر قبل وبعد الاستقلال ، خاصة وأن الشعب الجزائري لم يقف ولن يفقد مقومات تشبّثه بما يلج في خصوصياته الفريدة من نوعها ، حيث العقلية المتوارثة جيلاً بعد جيل ، ونكهة اللغة المُخاطِب بها عربية عامية أو فُصحى كانت ، أو أمازيغية قبائلية بلُكْنَةٍ لا تتكرّر إلاّ في الجزائر طولاً وعرضاً ، وتلك هوية أراد الاستعمار الفرنسي على امتداد قرن و نيف طمسها ولم يجد لذلك سبيلاً ، وقبل الفرنسيين حاول الأتراك ذلك ولم يتركوا غير ألقاب وأسماء أعظمها تبدّدت من تلقاء نفسها ، وأخرى ما أن عثرت على موقع قدم أكتفت برسمٍ للذِّكرى لا أقلَّ ولا أكثر .
– ثامناً ، أن يكون مُختلطاً بصيغة المستقبل ، مع المجتمع الجزائري شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً ، مؤهلاً لذلك انطلاقاً من “كان” الماضي ، ما دامت المسافة بينهما تتواصل بمتابعة يومية يغوص الفكر أثناءها مع ما يجري على أرض الواقع لإنتاج إجابات على ” لما ، ومتى ، وكيف؟؟؟” ، واضعاً في اعتباره أن مدن “وَرْكْلاَ” و”تلمسان” و “وهران” و”عَنَّابَةْ” و”سيدي بلعباس” ، جزائرية كعشرات أخريات مزروعة على خريطة الجزائر ، لكلٍ منها خاصية تميِّزها عن شقيقاتها بما يضفي جمالية موقف كل واحدة منهن على حدة ، أو معلمة جليلة ترمز لعبقرية ما ، تصارع الزمن لجدارة ما تمثله حقاً ، لتظل شاغلة حيِّزا في موروث ثقافي شعبي داخل محيط نظيف من شوائب التقليد الأعمى المستورد من بلاد لا تعترف بالأصالة الأهلية المحلية ، ولا تحترم البداية.
– سابعاً ، أن يكون على توافق أكيد مع ضميره ، ما دامت كتاباته مَبنيَّة على ضوابط علمية ، وأسس قواعدها عليمة بمصادر تشييدها مرجعاً موثوقاً فيما يكتنزه من معلومات صادقة المضامين ، متكاملة الدلائل ، واضحة الحجج ، تخص ركناً من أركان يحيا الإنسان معها ، يستنبط منها الدفاع عن عالمه الخاص ، لترسيخه كأمانة حَمَّل إياها عند الاقتناع عن إيمان، السَّلف الصالح للخلف الطامج ، مدوّنة في وثيقة لا يحصرها زمان ولا يضبطها تبار سياسي دون آخر ، منطلقة عبر الهواء المُستنشق والشعور بالكرامة كأهم احتياط مُصان داخل وجدان تربَّى صاحبه على قناعة أن الأمس كاليوم كالغد لا يساوي في الجزائر أية قيمة مَن فرَّط في “العمامة” الجزائرية المشهود برونقها ، وذاك “الجلباب” الذي زاد الأمير عبد القادر الجزائري البطل هيبة على هيبة ، وهو يرتديه مندفعاً في شجاعة نادرة ، يخاطب الند للند قادة اعتي قوة استعمارية آنذاك فرنسا ، أن للرجال الشرفاء الأحرار في الجزائر هدف أسمى إما المَجد أو اللَّحْد.
… ما تبقَّى من شروط لا تعتني إلاَّ بإشكالية التحاور انطلاقاً من إدراك مُفصَّل بمعلومات صحيحة عن مضمون عقليتين وما تنحصر فيهما بعيداً عن بعضهما البعض من خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها بالمُطلق إن الوسيط الدبلوماسي (ومن الطرفين) عديم المعرفة المعمَّقة بما هو مقبول لديهما معاً .
… وصلتُ والخيوط الأولى لفجر يومٍ لن أنساه ما حييت ، رحَّب بي خلاله القدر لأدخل في أمن وسلام المدار الحضري لمدينة “للامغنية” ، وحتى أصل لأبعد نقطة عن الحدود ، فكرتُ في مواصلة الطريق صوب مدينة “سيدي بلعباس” حيث أقمتُ فيها لأستريح داخل بيت أحد الشرفاء المُشيَّد فوق مسجدٍ ، بتوصية من صديق جزائري يقطن “عين بني مطهر” ، بعد ثلاثة أيام كنتُ وسط العاصمة أسأل أحد المواطنين عن عنوان مقر الإذاعة والتلفزة الجزائرية ، فلم يكتفي بالإشارات المعهودة أتمِّم على إثرها مسيري إلى الموقع الهدف ، بل ألحَّ عليّ أن يوصلني بسيارته لغاية مدخل تلك المؤسسة ، لمَّا علِم أنني مغربي غريب عن الديار ، لم أكن أعرف أحدا ً، بل تركتُ حارس الباب أن يُرشِّحَ لي أحد المسؤولين لأتناقش معه ، عسى أن يكون لي نصيب في وظيفة تُمكِّنني من الإقامة رسمياً في تلك العاصمة ، التي سبق أن سمعتُ عنها الكثير موقعاً وتاريخاً وبيئةً ومجتمعاً ،وما يدخل في سريَّة معلومات عن أجهزتها النافذة وهيكلتها البشرية ، وعن بعض مغاربة وجدوا فيها ملجأ يحمي توجّههم الجديد ولو لحين ، وما هي إلاَّ لحظات حتى وجدت نفسي وجهاً لوجه مع الرجل الثاني ، من حيث النفوذ المُخَوَّل به أن يلحقني بتلك المؤسسة الإعلامية العملاقة أو يقطع علىَّ الطريق ، يتعلّق الأمر بالأستاذ عبد القادر نور الذي مدَّ لي ورقة بيضاء وقلم حبر أحمر ، طالباً مني أن أكتبَ خاطرة أو أي شيء يبني بعد القراءة قراره في حق طلبي بالرفض أو القبول ، كانت لحظة رغم قصر زمنها ، حسبتُها طويلة ومقلقة للغاية ، ساد أثناءها صمت غريب انتهى بتحقيق غاية شكَّلت في الواقع أول خطوة اقطعها داخل تلك البناية المكونة من طبقات ثمانية ، الكائنة بشارع الشهداء رقم 21 بالعاصمة الجزائر ، لم يكتفِ الأستاذ نور بإبلاغي قرار الموافقة بل اصطحبني لقسم شؤون العاملين لأوقِّع داخله على عقد عمل رسمي ، وأتوصل بمبلغ مالي محترم تحت الحساب .
… دفعة واحدة شعرتُ براحة لم أعهدها منذ مغادرتي وجدة ، فسلّمتُ أمري لنوم فوق سرير ناعم وثير في حجرة لها قيمة الأناقة المتناغمة مع نزل له فخامة حضور تاريخي لنزلاء لهم وضعية الرّيادة كل في تخصصه ، دخلته ولا أملك غير ما ارتديه من ثياب بلَّل أجزاء منها عرق تعب المسير الممزوج بخوف من مصير مجهول يبدأ صاحبه من الصفر بطموح امتلاك الدنيا ، انتبهتُ جيداً لنظرات الفاحصين أصحابها منظري الذي يقربني لمسؤول ما ، متنكر في ذاك الهندام لأسباب ما ، ساعدهم على هذا التصور مرافقي المكلّف بإتمام إجراءات الإقامة في تلك المؤسسة الفندقية ، الظاهر أنه معروف لدى البعض من تلك الطبقة المحسوبة على حكام الدولة الجزائرية. (يتبع)
مصطفى منيغ
سفير السلام العالمي